سلام لبنان الصعب
Credits: INFO3

سلام لبنان الصعب

قال القياديّ في "حركة أنصار الله الحوثيّة" عبد الملك العجري في مقابلة مع مجلّة "أتلانتيك" الأميركيّة إنّ "زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، سيظلّ سلطة عليا للبلاد في حال التوصّل إلى أيّ تسوية سياسيّة في اليمن... وستكون جماعته في وضع أقوى وأكبر من الحزب اللبنانيّ".

لا شكّ في أنّ "الحزب" سبق الحركة الحوثيّة بعقود في قرصنة قرار الدولة، ويأتي كلام العجري كدليل جديد على الهدف الذي يربط حلفاء إيران في المنطقة، وهو الهيمنة السياسيّة والأمنيّة في أماكن وجودهم خدمة لمصالح الراعي الإيرانيّ. ننقل موقف الحوثيّين هذا على ضوء المساعي الدوليّة، والغربيّة بخاصّة، لتطبيق القرار الأمميّ 1701 والقاضي بانسحاب "الحزب" إلى شمال نهر الليطاني، تلافياً لحرب مدمّرة تشنّها إسرائيل بحسب تهديد قياداتها السياسيّة والعسكريّة.

الواضح أنّ "الحزب" لن ينصاع لرغبة الوسطاء وينفّذ القرار 1701، لأنّه يكون بذلك كمن يطلق النار على نفسه وينفي الحاجة إلى سلاحه، وهو أداته الأساس للهيمنة على العمليّة السياسيّة في بلد متعدّد الطوائف وتركيبته معقّدة وصعبة ويعيش اليوم أدقّ مراحل وجوده، سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً. على المقلب الإسرائيليّ، وبعد عمليّة 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) التي شنّتها "حماس"، لن ترضى الحكومة الإسرائيليّة اليمينيّة بوجود كيان يفوق "حماس" قوّة وخبرة وتنظيماً على حدودها. لذلك، لا نبالغ إذ نقول إنّ ما يتردَّد عن حرب قريبة أو بعيدة تهدّد هذا البلد، يبدو كأنّه قدر محتوم تكيّف معه اللبنانيّون من دون القيام بأيّ تحرّك فاعل وجديّ بحجم وهول هذه الحرب المتوقّعة للاحتياط منها أو تجنّبها، لا رسميّاً ولا حزبيّاً ولا شعبيّاً. كُتب الكثير عن احتمال أن تشنّ إسرائيل حرباً شاملة ضدّ لبنان وتداعيات ذلك عليه وعلى المنطقة، لكنّ السؤال الواجب طرحه اليوم سواء وقعت هذه الحرب أو تمكّن لبنان بقدرة قادر من تلافيها: ماذا بعد اليوم التالي للحالتين؟ هل لبنان مستعدّ للسلام العتيد وللسير قدماً في أيّ تسوية قد ترسو عليها المنطقة وتنهي النزاعات الدائرة فيها؟

لعلَّ مصاعب الاستعداد للسلام تحاكي مصاعب الاستعداد للحرب، لا سيّما إذا كان البلد المعني فقد مقوّمات الدولة بالمعنى المعروف من جرّاء خمسين عاماً من تسلّط قوى أجنبيّة عليه، وخلافات سياسيّة محليّة مزمنة وتاريخيّة تُوّجت بحرب أهليّة خلّفت وراءها خسائر بشريّة وماديّة ونفسيّة تركت آثارها على النسيج الاجتماعيّ. انتهت هذه الحرب بعد خمسة عشر عاماً بشبه احتلال سوريّ بدأ إبان الحرب ولم ينتهِ إلاّ بعد زلزال سياسيّ قوّض ما تبقى من البلاد باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، ومهّد للهيمنة الإيرانيّة بعد بسط "الحزب" سيطرته علناً على الدولة ومفاصلها كافّة تُوّجت منذ أربع سنوات بانهيار ماليّ واقتصاديّ واجتماعيّ.

يُعتقد أنّ السلام المقبل سوف يحمل معه حلولاً لهذا الواقع وأزماته ومشاكله، وقد يكون هذا التوقّع احتمالاً صحيحاً، إنّما الوقائع المزرية على الأرض التي نتجت من أحوال البلاد المريضة على مدى عقود، وولّدت متغيّرات سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، وعدّلت في ميزان القوّة لصالح طرف، قد تكون خلقت حائطاً سيصعب على السلام المرتجى تخطّيه.

الطوب الأكثر صلابة في هذا الحائط سياسيّ، وركنه الأوّل مدى استعداد إيران للتخلّي عن طموحاتها التوسعيّة في المنطقة بما يترجم في لبنان بتخلّي "الحزب" عن سلاحه، والأهمّ عن الدويلة التي أنشأها. السلاح هو ذراع واحدة من الأخطبوط الذي باته "الحزب"، فدويلته لها نظامها الخاص وشبكاتها الماليّة الداخليّة والخارجيّة، كما شبكات التقديمات الاجتماعيّة والتربويّة التي خرّجت أجيالاً تشرّبت أفكار ولاية الفقيه. فإذا تمكّن لبنان بدعم دوليّ من نزع سلاح "الحزب"، وذلك صعب في حدّ ذاته، فهل سيتمكّن من إنهاء حالته المجتمعيّة؟ دويلة "الحزب" وسلاحه الذي لم ينتصر فعليّاً إلا على اللبنانيين، أدخلا لبنان في محور الدول الغارقة في الماضي وأفكاره وعاداته وأساليبه على الصعد كافّة، والنماذج المطروحة أحلاها إيران والعراق وسوريا واليمن، وحتّى إذا تفاءلنا، نصبغ عليها مسحة من اللبننة قد تخفّف من مرارتها، وعندما يتطلع إلى المستقبل فهو مرآة لماضٍ متخيّل. إذا بقي لبنان في غياهب هذه الفئة من الدول وهذا المحور، فأيّ دور له في مرحلة السلام المنشود؟

الركن الثاني في الطوب السياسيّ يتمثل في القوى السياسيّة المناهضة لـ"الحزب". المشكلة في لبنان تكمن في ثقافة العمل السياسيّ، والتي بمفهومها الواسع تتطلّب من السياسيّين الذوبان في الصالح العام، والسعي وراء الخير العام، ونبذ المصالح الشخصيّة والأنانيّة الضيقة. للأسف، هذه الثقافة شبه منعدمة في بلادنا، والدليل هو عجز أطراف هذه القوى عن إيجاد، ولو قاسم مشترك واحد يتوحّدوا عليه لا نظريّاً، بل عمليّاً. انغلاق هؤلاء على مصالحهم شكّل الأداة التي فكّكت الدولة والسلاح الذي مكّن الخارج من إحكام قبضته على البلد. فهل سيتمكّن هؤلاء من الخروج من قوقعاتهم والجلوس إلى طاولة مفاوضات مع "الحزب" حول ما يمكن أن نتّفق عليه وما نختلف، وسبل الخروج من دوامة النزاع إلى مرحلة السلام؟

الطوب الثاني في الحائط طبيعته اجتماعيّة – ثقافيّة، وليست طائفيّة. ثمة انشطار اجتماعيّ - ثقافيّ حاصل يصعب معه الانخراط في سلم داخليّ. قسم من الاجتماع اللبناني يعيش حرباً "مقاومة" يدفع يوميّاً أثمانها ضحايا بشريّة وخسائر ماديّة بالملايين. وفي المقلب الآخر اجتماع يقيم المهرجانات والمعارض والحفلات والسهرات تحت شعار ثقافة الحياة تغلب ثقافة الموت، والتغني بقدرة اللبنانيّ على التكيّف والنهوض والاستمرار. كما مشهد الموت مقيت، مشهد الحياة على النمط اللبناني مقيت أيضاً، إذ لا ينم سوى عن سطحيّة وخفّة بات من الصعب احتمالهما. هذا الانقسام سيُترجم في النهاية وقائع ومفاعيل سياسيّة لا يمكن تجنّبها أو الهروب منها، وبدأت تتظهّر.

إلى كلّ ما سبق تبقى المعضلة الماليّة والاقتصاديّة المتدحرجة والناتجة من الواقع السياسيّ، وما سوف يؤول إليه لارتباط النهوض الاقتصاديّ والمالي المنتظر والمرجو بأحوال السياسة ومآلاتها.

يصعب الدخول في السلام بثوب عتيق ممزّق، ولا بدّ من مقاربات جديدة تعالج التباينات والخلافات، في إطار حديث يحتضن الأطراف كافّة يسقط الانتماءات الفرعيّة دون الوطنية المتأصلة في الروح الجماعيّة والذهنيّات الثقافيّة والسلوكيات الاجتماعيّة، وإلا فسيكون من الصعب عكس ديناميات التفكّك الذي حصل، وستبقى عملية بناء الدولة عصية على التحقق، كما مواجهة الحرب أو دخول مسار السلام.

(صحيفة الشرق الأوسط)

* Stories are edited and translated by Info3 *
Non info3 articles reflect solely the opinion of the author or original source and do not necessarily reflect the views of Info3