Credits: INFO3

"حب الحياة" في لبنان يعزّز "ثقافة الموت"

مرّت الذكرى الثالثة لجريمة تفجير مرفأ بيروت باهتة، ولم تكن بحجم هول الحدث، لا على مستوى الحشد الشعبيّ، ولا لجهة مضمون الكلمات والشهادات التي ألقيت بالمناسبة، وجاء أغلبها تكراراً مملاًّ للعناوين نفسها، وتشخيصاً للأزمة، وشكوى من المنظومة الحاكمة. هذا لا يعني التقليل من الجهود التي بذلها أهالي الضحايا على مدى السنوات الثلاث إعلاميّاً، والضغوط والمثابرة من دون كلل، مطالبين بكشف الحقيقة ومحاكمة المسؤولين. اللاّفت السلبي أيضاً هو وهن وفتور الحشد الشعبيّ، الذي من المفترض أن ينضمّ إلى أهالي الضحايا بعد 3 سنوات من تعطيل التحقيقات، والذي عكس إلى حدّ بعيد سمة ردود أفعال اللبنانيّين على مسلسل الجرائم التي شهدتها البلاد، والتي بقيت من دون استثناء مجهولة الفاعل.

وإذا استذكرنا ردود الفعل هذه على مسلسل القتل منذ اغتيال معروف سعد في صيدا، قبيل اندلاع الحرب الأهلية بشهر تقريباً، إلى لقمان سليم في السنة الفائتة، نجدها كلّها مستفزّة، كأنّ المواطن اللبناني أدمن على التغاضي عن المحاسبة، كما على تجهيل الفاعل، والاكتفاء بالشكوى والصراخ وشتم المسؤولين.

يقال إنّ الحروب -لا سيّما الأهليّة منها- تصعّب المحاسبة على جرائم القتل، وتسهّل الإفلات من العقاب. هذه الحجة تصح في الجرائم التي وقعت إبان الحرب الأهلية، وطالت رئيس جمهوريّة منتخباً ورئيس حكومة ومفتي الجمهورية، وعدداً من رجال الدين وشخصيّات سياسيّة. ماذا بشأن الجرائم التي وقعت بعد انتهاء الحرب، وبخاصة منذ سنة 2005، ومنها زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، وما تلاه من مسلسل القتل الذي بلغ حدّ تفجير المرفأ الذي طالت آثاره ثلث العاصمة، ويعد أكبر تفجير غير نوويّ في العالم؟ الإجابة تُختصر بأنّ اللبناني دُجّن على تجهيل الفاعل.

ونضيف إلى ما كتبه الزميل حازم صاغية في هذه الصفحة، إمّا العدالة وإمّا المقاومة، أنّ اللبناني بات يميل إلى الاستقرار بكلّ زيفه أكثر من العدالة والمحاسبة، بحجة الصمود أحياناً، والتكيّف تارة، وحب الحياة مقابل ثقافة الموت والمصالح الشخصيّة والفئويّة تارة أخرى. ولعل هذا المنطق أو ذلك الأسلوب سبب لاستمرار الحرب بين مشتعلة وكامنة لأكثر من 4 عقود، والسماح للقتلة والمجرمين على اختلاف ارتكاباتهم بالإمعان فيها وتكرارها.

ذكرى تفجير المرفأ تنكّأ جراحاً قديمة وجديدة، وتبيّن على أرض الواقع أنّ غالبية اللبنانيين طلّقوا فكرة المحاسبة في شؤون حياتهم لصالح الاستقرار والمصلحة الآنية القصيرة الأمد. وهذا ما ظهّره، وبفجاجة، موسم الصيف هذه السنة، من زهو بانتعاش الحركة السياحيّة، وقدوم آلاف المغتربين والعاملين في الخارج، ونشوة طفرة مهرجانات الغناء والرقص التي أريد منها عكس حلاوة العيش، لكنّها جاءت نافرة ومستفزة.

الإعلام لم يقصّر في هذا الشأن، وبدت الصورة للقريب والبعيد أنّ البلاد بألف خير، والازدهار يعمّ المناطق، وتمّ اختصار الوطن بين مدينة البترون الساحليّة وفقرا في الجبل وبعض الشوارع في العاصمة، وأصدق من عبّر عن هذا الواقع سيّدة، لعلّها ناشطة سياسية، تحدثت إلى إحدى شاشات التلفزة عن إعادة إعمار بعض المناطق في العاصمة، بعد التدمير الذي أصابها من جراء تفجير المرفأ، بقولها إنّ عودة الحياة إليها عبر ترميم أماكن الترفيه واللهو والسهر، من مقاهٍ ومطاعم وفنادق، هو ما يسمح للشباب اللبناني بالبقاء في وطنهم والعزوف عن الهجرة!

ما من عاقل يتنكّر لأهميّة هذه المرافق، لا سيّما في بلد مثل لبنان، تشكّل السياحة الداخليّة والخارجيّة حيّزاً مهمّاً من اقتصاده، كذلك في تظهير صورة لبنان المنفتح ومكانته بين الدول السياحيّة في العالم، إنّما أيضاً، يعكس هذا الكلام الانفصام عن الواقع المرير البائس لأحوال البلاد المفلسة، وتبخر أموال المودعين في المصارف، وانعدام البنى التحتيّة وخدمات الكهرباء والمياه فيها، ووهن الصناعة والزراعة، وتدني مستوى التربية والتعليم والاستشفاء من مصاف الريادة، أقلّه بين الدول العربيّة المحيطة. هذا من دون أن نتكلّم عن التردي في الشأن السياسي، وهيمنة الميليشيات، والوصاية الخارجية على صناعة القرار، وسقوط المؤسسات الدستورية والعامة الواحدة تلو الأخرى، واستشراء الفساد وتعطيل القضاء.

الهدف ليس التبشير بثقافة "حزب الله" الساعية من دون كلل لتغيير وجه لبنان، كما قال يوماً محمّد رعد رئيس كتلة نوّاب الحزب في البرلمان، عندما دعا إلى تغيير صورة لبنان الفندق والملهى إلى "لبنان المقاوم"، إنّما أيضاً ليس مقبولاً ولا سليماً الانجرار وراء إخفاء الأوساخ تحت السجادة كما يقال، وتناسي حقيقة الأزمة، وبخاصّة الجوانب السياسيّة والأمنيّة منها، وتغليفها في مظاهر اللهو والسهر الموسميّة والموقّتة، والمعرّضة للانهيار تحت وقع أقلّ حدث أمنيّ أو سياسيّ محليّ أو إقليميّ. وحادث الاقتتال الفلسطينيّ في مخيّم عين الحلوة، وما تلاه من طلب دول الخليج العربي من رعاياهم مغادرة لبنان، ومنعهم من السفر إليه، وتداعيات تدهور الشاحنة المحمّلة أسلحة وذخائر إلى "حزب الله" في بلدة الكحّالة قرب بيروت، وسقوط قتيلين من جرائها، خير دليل على ما نقول.

الموقف الخليجي له تفاسير متعددة، إنما الأرجح أنه رسالة سياسية إلى لبنان، تقول للأطراف السياسيّة كافة: "كفى"، وأنّ لا عودة خليجيّة إلى لبنان من دون تغيير جدّي في أحواله السياسيّة.

المأساة اللبنانية المستمرة منذ السبعينات تتجاوز الحكام والمسؤولين، وتطول المواطنين أفراداً وجماعات، لأّنّه رغم جسامة الأحداث التي شهدناها، فهي لم تحث المواطن اللبنانيّ على تغيير المعادلة، بسبب عدم وجود رأي عام ضاغط على الأطراف السياسيّة والمسؤولين في السلطة. المشكلة باتت تكمن في الاعتياد على عدم المحاسبة، نتيجة تضخم المصالح الشخصيّة، وتحقيق الربح السريع، وانتفاخ الأنانيّة والشخصنة والطائفيّة والمناطقيّة. المناخ الطاغي هو الشرذمة والقسمة والتلهي بالعناوين الفضفاضة وبيع الأوهام والتكاذب والكذب، ومن مظاهره التي باتت تبعث على الاشمئزاز القول إنّ اللبناني متمسك بحب الحياة، بينما في الواقع هو يعزّز نشر ثقافة الموت.

 

(صحيفة الشرق الأوسط)

* Stories are edited and translated by Info3 *
Non info3 articles reflect solely the opinion of the author or original source and do not necessarily reflect the views of Info3