مجموعة
Credits: INFO3

مجموعة "فاغنر" ليست وحدها


جوانب كثيرة ستظلّ مجهولة من أسرار اليوم ونصف اليوم الذي شهد تمرّد مجموعة "فاغنر" على راعيها في موسكو. بيد أنّ عبر القليل المؤكّد المتوافر بين أيدينا، ونحن نتابع هذا الحدث المستجد، لا بدّ من ملاحظة أنّ هذه الكيانات العسكريّة، كمجموعة "فاغنر" الروسيّة أو "الحرس الثوريّ" الإيرانيّ و"الباسيج" وباقة الميليشيات ذات الصلة، أو "الدعم السريع" في السودان، أو "الحشد الشعبيّ" في العراق وبما تمتّع به من مستويات متفاوتة من الاستقلال عن الأجهزة الرسميّة للدول والحكومات، باتت ظاهرة مركزيّة مؤثّرة في ديناميّات الأمن العالميّ والعلاقات الدوليّة. إلى ذلك، فإنّ هذه الكيانات دخلت مرحلة تحوّل على مستوى التحديات التي تمثّلها، لرعاتها قبل خصومها.

قبل "فاغنر"، لا تزال سارية محاولة انقلاب مجموعة "الدعم السريع" السودانيّة على الجيش السودانيّ الرسميّ، نتيجة الكثير من الحسابات المشابهة التي دفعت بقائد "فاغنر" يفغيني بريغوجين إلى رفع سقف تحديه لموسكو من مستوى الهجوم على القيادة العسكريّة للتبشير برئيس جديد لروسيا. كما سبق لوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف أن قدّم كشفاً نادراً لجوانب من علاقة "الحرس الثوريّ" بقرار الدولة الإيرانيّة العسكريّ والأمنيّ والسياسيّ والديبلوماسيّ، وكيف أنّ قرار "الحرس الثوريّ"، كجيش موازٍ، كان يُخضع قرار وزارة الخارجية وغيرها لحسابات الميدان. وفي العراق نجح "الحشد الشعبيّ" في التحوّل إلى القوّة العسكريّة الرئيسيّة في البلاد كما تظهر أرقام الموازنة الأخيرة، والامتيازات الطويلة الأمد التي حظي بها عناصرها في ظل حكومة الرئيس محمد شياع السوداني، وهي أول حكومة تسندها بشكل حاسم ميليشيات "الحشد" إثر خروج مقتدى الصدر من العمليّة السياسيّة.

وفي لبنان انتهى التعايش مع ميليشيا "حزب الله" إلى انقلاب نُفّذ على مرحلتين، بدأت باغتيال رفيق الحريري عام 2005، واستكملت في الانقلاب المسلّح على توازنات النظام السياسيّ عام 2008 والتأسيس لقواعد حكم جديدة. وهي لم تشذ في هذا السلوك عن سعي الجيوش البديلة والمرتزقة لتوسعة نفوذها وإبعاد منافسيها، حتى ولو على حساب التصادم المباشر مع رعاتها أو المتوافقين معها.

تتشابه هذه الكيانات في حقيقة أنّ تمويلها غالباً ما يكون مزيجاً من رعاية الدولة والأنشطة الإجراميّة والمصالح الخاصّة، فمجموعة "فاغنر" الروسيّة لا تحظى بدعم الكرملين الضمنيّ فحسب، بل تتمتّع أيضاً بأرباح من مشاريع استخراج الموارد المختلفة في روسيا أو في مسارح عمليّاتها. وتدير ميليشيا "حزب الله"، إلى جانب مخصّصاتها الإيرانيّة، شبكة هائلة من عمليّات تبييض الأموال والاتجار بالمخدّرات في حين أنّ قوّات "الدعم السريع" في السودان وبسبب هيمنتها على مناجم الذهب باتت صاحبة قدرة حاسمة على التجنيد وشراء الولاءات وتوسعة النفوذ.

لا تقتصر استقلاليّة هذه الكيانات على بعض من جوانب التمويل فقط، بل إنّ انتحالها صفة الاستقلال عن رعاتها (لا ينطبق هذا على "الحرس" و"الحشد" إلاّ بحدود) يساعد العواصم المعنيّة بها على إنكار الصلة بها والتنصل بالتالي من أفعالها، حتى وهي تحصد نتائج هذه الأفعال.

يشكّل هذا الواقع تحدّياً عملاقاً للقانون الدوليّ، في ظلّ القصور الفادح في الآليّات القانونيّة القويّة للتعامل مع الميليشيات والمرتزقة التي ترعاها دول. فرغم من محاولات المحكمة الجنائيّة الدوليّة مقاضاة أفراد مثل الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير على جرائم ارتكبتها الميليشيات المدعومة من الدولة، فإن إثبات مسؤولية واضحة غالباً ما يمثل تحدياً بسبب قضايا الاختصاص القضائي والإنفاذ والإرادة السياسية، كما ظهر في محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري التي اقتصرت على إدانة أفراد فقط.

بيد أنّ المفارقة تكمن في أنّ هذه الاستقلاليّة ونأي الحكومات بنفسها عن الجيوش الموازية والميليشيات هي ما يدفع مجموعات كـ"فاغنر" وقوّات "الدعم السريع" للمبالغة في قدراتها وطموحاتها، وتؤدّي إلى تناقضات خطيرة كمثل التي شهدناها في روسيا والسودان.

أمّا الجانب الأكثر قتامةً لاعتماد الحكومات على الميليشيات والجيوش البديلة، فهو أنها غالباً ما تكون ذات تأثير مدمّر وطويل الأمد على التراكيب السكانيّة والبنى الاجتماعيّة، فالحكومات الراعية لها متحرّرة في الغالب من عبء التبعات القانونيّة للجرائم التي ترتكبها هذه الميليشيات والجيوش الموازية، في حين أنّ الحكومات هي نفسها من يحرّضها على جرائم تتجنبها الدول في العادة. يندرج في هذا السياق السجل الدموي لميليشيا "الجنجويد" في السودان أو "حزب الله" في سوريا أو الميليشيات الموالية لإيران في الحواضر السنّية في العراق، أو مؤخراً أفعال مجموعة "فاغنر" في باخموت الأوكرانيّة.

إلى ذلك، عززت التكنولوجيا قدرات وفاعليّة الجيوش الموازية والمرتزقة، من خلال خفض تكاليف الأسلحة المتقدّمة، كسلاح المسيّرات، ووفرة تكنولوجيات الرصد والتعقب وبناء منظومات تجسسية خاصة؛ ما يمنح هذه القوى قدرات تدميرية لم تتوافر في السابق إلا للدول والحكومات. كما أدى انخراطها في ميدان الحرب الإلكترونية وأنشطة التعبئة والتجنيد إلى توفير وسائل خفية جديدة لإلحاق الضرر بأعدائها من دون الدخول إلى ساحة المعركة. يزيد كلّ ذلك من فعاليّتها وشهواتها بالتالي لقضم المزيد من النفوذ والقرار من رعاتها.

تمثل إذن ظاهرة الجيوش الموازية والمرتزقة تحدّياً معقّداً في المشهد الجيوسياسي المعاصر. ومن الواضح حتّى الآن أنّ الإجراءات المضادة التي تتّسم طبيعتها برد الفعل، فاقدة للفعاليّة إلى حدّ كبير، حتى حين تتسم بفائض من الاستعراض كاغتيال قاسم سليماني.

تتطلّب هذه الظاهرة لمواجهتها جهداً عالميّاً متكاملاً يشمل الإصلاحات القانونيّة وآليّات المساءلة والاستراتيجيّات المتعدّدة الأوجه لإدارة وتخفيف المخاطر التي تشكلها هذه المجموعات.

تحتاج الدول إلى ابتكار استراتيجيّات شاملة تشمل تدابير ديبلوماسيّة واقتصاديّة وعسكريّة، مع معالجة الأسباب الجذريّة مثل إخفاقات الحوكمة وعدم المساواة الاقتصاديّة، وتقنين استخدام التكنولوجيّات المتطوّرة التي تسهم في تعزيز فعاليّة اللاّعبين الصغار ومنحهم القدرة على مواجهة جيوش عملاقة ودول كبرى.

 

(صحيفة الشرق الأوسط) 

* Stories are edited and translated by Info3 *
Non info3 articles reflect solely the opinion of the author or original source and do not necessarily reflect the views of Info3