الحرب المحدودة لا يمكن احتواؤها
Credits: INFO3

الحرب المحدودة لا يمكن احتواؤها

زيارة الساعات الستّ لبيروت، التي قام بها الموفد الأميركيّ آموس هوكشتين، التي تزامنت مع نهاية الشهر الخامس على حرب التوحّش الصهيونيّ على قطاع غزّة، حملت عناصر متقدّمة في الرؤية الأميركيّة للوضع في الجنوب ولبنان، مغايرة في الجديّة والحزم، لما حمله في زيارتين سابقتين له بعد 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023.

 

ليس أمراً قليل الأهميّة أن يكرّر المستشار الرئاسيّ الأميركيّ لأمن الطاقة، على مسامع من التقاهم، ما أعلنه قبل فترة ديفيد كاميرون وزير خارجيّة بريطانيا من أنّ "أيّ هدنة في غزّة لن تمتدّ بالضرورة تلقائيّاً للبنان" (...) ويضيف بشكلٍ حازم أنّ "لا شيء اسمه حرب محدودة، والحرب المحدودة لا يمكن احتواؤها"، وأنَّ "وقفاً موقّتاً لإطلاق النار غير كافٍ"! ذلك يعني أنّ الحرب يمكن أن تتوسّع، منهياً منطق "الحزب" عن "السقف المنخفض" و"حماية الردع من دون الحرب الشاملة"، ليقدم البديل عن ذلك، وهو الكامن في أهميّة التسوية الحدوديّة لنقاط ما زالت عالقة، وتفعيل القرار الدوليّ 1701، خصوصاً أنّ الظرف الذي يمر به لبنان يشي بأنّ لا إلغاء للقرار ولا تخلٍ عن "اليونيفيل"، فيشكّل ذلك الشرط الشارط للأمن والاستقرار على جانبيّ الخطّ الأزرق بين لبنان وإسرائيل... وهو أمر إن تحقّق يقع في قلب المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة!

واقعيّاً، تمت الزيارة بعد أكثر من خمسة أشهر على بدء "الحزب" عمليّات "مشاغلة" إسرائيل "إسناداً" لغزة (...)، وهي حرب أنهت الكثير من المقولات وأسقطت ترويجات زائفة، لأنّه على أرض الواقع الجنوبيّ حدث تغيير نوعيّ في المعادلة التي كانت سائدة قبل 8 أكتوبر الماضي تاريخ إطلاق "الحزب" ما أسميَ بـ"ميني حرب".

لافتة ظروف الزيارة التي سبقها تصعيد ميدانيّ خطير ومتبادل، لكنّ الضربات الإسرائيليّة بلغت محيط بعلبك على بعد يفوق الـ130كلم عن الحدود، مع اتساع في عمليّات اغتيال قيادات عسكرية لـ"الحزب" في منحى عنوانه تقويض قدراته العسكريّة، بعدما تظهّر اتساع الانكشاف والحجم الخطير للاختراقات الأمنيّة والاستخباراتيّة لمصلحة إسرائيل... ودعونا نتذّكر أنّ التصعيد الميدانيّ ترافق مع تسريبات في الإعلام الأميركيّ عن قرار إسرائيليّ كبير بإطلاق غزو برّي للبنان، بين منتصف الربيع وبداية الصيف، والراجح أنّ ما قيل عن "قلق" البيت الأبيض من احتمال الاجتياح الإسرائيليّ، حمل إشارة خطرة عن تعثر الحلول الديبلوماسيّة!

 

يعني، تمّت الزيارة في ظلِّ مناخٍ مكّن إسرائيل من رفع سقف شروطها، عبر تكثيفها الضربات العسكريّة والأمنيّة. كذلك، نجاحها إلى حدٍّ كبير في الرسم بالنار لمشهد خطير أمام اللبنانيّين، وبالأخص الجنوبيّين، وهو حدود منطقة عازلة على امتداد الحدود تمّ استنساخ أكثر من غزّة صغيرة في البلدات الحدودية. ويشير الكاتب إبراهيم بيرم في "النهار"، وهو مقرّب من "المقاومة"، إلى أنّه "في 3 أسابيع، وجّهت إسرائيل ضربات تدميريّة لمعظم القرى الحدوديّة هجّرت ما تبقى من مواطنين"، وتعمل على "الاستفراد بمقاتلي (الحزب)"! إلى ذلك اتسع تلمّس جهات لبنانيّة عديدة أنّ هدنة في غزة لن تنسحب تلقائيّاً على الجنوب، لأنّ العدو الذي مدّدَ إقامة النازحين من الجليل إلى السابع من يوليو (تمّوز) المقبل، أعلن مراراً أنّ لا وقف للنار شمالاً من دون عودة المستوطنين، ولا عودة للمستوطنين مع أيّ احتمال لعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثامن من أكتوبر الماضي!

 

خطيرة هي الوقائع على الأرض، لا يبدّلها إطلاق مواقف تكرّر ترهات الـ"سبع دقائق والنصف"، سواء قول النائب محمد رعد: "الحزب بانتظار الإسرائيليّ كي يخطئ ليضع مصير كيانه على المحك"، فهل يصحّ ذلك أمام الدماء المسفوكة مجاناً والأرض المحروقة من الناقورة إلى كفرشوبا؟ وهل يصرف حديث الشيخ نعيم قاسم: "من أراد أن يكون وسيطاً معنا عليه أن يتوسّط أوّلاً لوقف العدوان على غزّة"؟ يعني هل تستقيم المقارنة بين دمار كليّ أو جزئيّ لما يفوق 10 آلاف منزل، مع أضرار محدودة أصابت 450 منزلاً في المستوطنات الإسرائيليّة؟ وهل المقارنة لمصلحة لبنان بين قيام إسرائيل بإجلاء نحو 80 ألفاً من المستوطنين إلى أماكن آمنة، مع نزوح قسري طاول قرابة 150 ألفاً من أبناء الجنوب المتروكين في العراء لمصيرهم؟

 

نعم، تمّت زيارة هوكشتين في زمن شهد سقوطاً بالجملة للكثير من الشعارات من "توازن الرعب"، و"ما بعد بعد حيفا"، إلى "وحدة الساحات"، وصولاً إلى "الدم بالدم"، وأن الكيان الغاصب "أوهى من بيت العنكبوت"... وتبيّن أنّ في ترسانة إسرائيل بنك أهداف يتجاوز لبنان إلى كلّ المنطقة، وأنّ هناك تحالفاً دوليّاً يعوّض إسرائيل كلّ رصاصة تطلقها، ويموّل خسائرها اللاّحقة باقتصادها وعمرانها، وأنّها قادرة على خوض حربٍ طويلة ولا يقتصر اختصاص إسرائيل على حروب الأيّام الستة أو الـ33 يوماً فقط، وأنّه من غزة إلى الجنوب تسعى "حماس" و"الحزب" إلى وقف النار، وليس العكس!

 

لم تحمِ الحكايات الشعبويّة عن "التوازن" لبنان، وأيّ مشروع وعد جديد بـ"انتصار إلهي" صار خلف اللبنانيّين، الذين تتفاقم معاناتهم. والأكيد أنّ رضوخ نظام المحاصصة، الذي ولّد أخطر تحالف مافيازوي ضدّ اللبنانيين، وشرّع المساكنة مع الدويلة وسلاحها وجيشها البديل، منذ تبنت حكومات "الوحدة الوطنيّة"، ما بعد مؤتمر الدوحة، للثلاثية الشهيرة: "جيش وشعب ومقاومة"، هو الذي أوصل لبنان إلى هذا الدرك مع انقلاب المتسلّطين على الدستور، وعلى القرارات الدوليّة، التي ارتكزت إلى وثيقة الطائف والدستور، وأبرزها القرار الدولي 1701!

 

كلّ الحروب تفتح أفقاً تفاوضيّاً، ولا شكّ أنّ تفاوضاً جارياً بين طهران وواشنطن، يرتبط أحد محاوره بمصير لبنان ومستقبل شعبه. يتمّ ذلك من وراء ظهر اللبنانيّين بعدما ألغت حكومة "الحزب"، التي يرأسها ميقاتي الهامش بين مصالح البلد وحقوق أهله والأجندة الموكل لـ"الحزب" تنفيذها. يتم ذلك رغم انعدام أيّ تأييد لـ"الحزب" خارج مكوّنات الحكومة الواجهة، ورغم تبلور أكثريّة ساحقة رافضة جرّ لبنان إلى الحرب. لكن المفارقة المذهلة تكمن في أنّ الأكثريّة الشعبيّة، ومعها "معارضة" نظام المحاصصة، لم تنجح لا في وقف انحلال السلطة ولا في تعطيل التبعية للتسلط الميليشيويّ. كلّ ذلك يعيد وضع اللبنانيّين أمام تحدٍّ محوريّ لرسم مسار مواجهة يسمح بإعادة تكوين السلطة على قاعدة استعادة الدولة المخطوفة وتحرير قرارها ومؤسساتها بالعودة إلى الدستور لدرء التحديات والمخاطر.

 

(صحيفة الشرق الأوسط)

* Stories are edited and translated by Info3 *
Non info3 articles reflect solely the opinion of the author or original source and do not necessarily reflect the views of Info3