المطران جورج خضر... صوت نبويّ في عامه المئة

المطران جورج خضر... صوت نبويّ في عامه المئة

بلغ المطران جورج خضر عامه المئة اليوم 6 تموز/يوليو 2023، وهو في صفاء ذهن وسلام وانقطاع للصلاة والتأمل واستقبال الضيوف.

بعد فترة وجيزة من ممارسة المحاماة، درس الفلسفة واللاهوت في المعهد الروسي في باريس (القديس سرجيوس) حيث كان في عداد أساتذته نيقولاي بردييف. درّس اللاهوت في لبنان، وكان أستاذ الاسلاميات في الجامعة اللبنانية. 

شغل منصب مطران (أُسقف) منطقة جبل لبنان بين 1970 و 2018. 

أديب ومفكر كبير، نشر عدداً كبيراً من الكتب في شؤون مسيحية وإسلامية وفلسطينية وعربية وعالمية، بينها افتتاحياته الشهيرة في جريدتَي "لسان الحال" و"النهار". ألقى محاضرات كثيرة في لبنان والبلدان العربية والشرقية والغربية تناولت أُموراً، منها: المسيحيون العرب، المسيحية والاسلام والعروبة، الحوار بين الأديان، الدين والدنيا في المسيحية والاسلام.

إلى علومه الدينية، تعمّق في الانسانيات والفنون، وكان المثقف المبدع الشاهد على عصره. من الحواضر التنويرية أحب باريس حباً خاصاً. طالما التقينا، طوال إقامتي الباريسية في عقد الثمانينات، نتداول هموماً مشتركة ونزور المتاحف والمعارض الفنية، بمبادرة منه، ويدهشني بتذوقه الرفيع للفنون.

إذ يطفئ شمعته المئة - هذا الذي تليق به المئون - لا أجد ما أُهديه إليه، وقد جمعتني به صداقة فكرية وشخصية وكتب عن كتبي كما كتبتُ عن كتبه، خيراً من مقاطع كلمة تكريمية قبل عقد من الزمن.

***

 

ذات يوم وأنا طالب في الجامعة الأميركية في بيروت، استوقفني زميل دراسة على مدخل الجامعة قائلاً: "ألم تقرأ ما كتبه وائل الراوي عن مجموعتك الشعرية؟". وفي جريدة لسان الحال اليومية، حيث كان الأب جورج خضر آنذاك ينشر افتتاحية أُسبوعية باسم وائل الراوي، قرأت تحليلاً لمجموعتي الشعرية "أجراس اليوم الثالث" هي من أرفع ما يمكن تسميته نقداً أدبياً. ولم أكن قد وقعت على كتابة لرجل دين عربيّ اللسان بهذا المستوى الثقافي – الفكري – الأدبي سعةً وعمقاً. صحيحٌ أني قرأت كتابة عربية غزيرة من هذا الصنف بعد ذلك الحين. لكنها جاءت كلها من قلم وائل الراوي نفسه وقد صار المطران جورج خضر. كتب عن شعري أعمق الكلام وأجمله ولمّا يرَ واحدنا الآخر بعد. وكان صديقنا المشترك، الشاعر أدونيس، أشار عليّ بأن أترك معه نسخة من "أجراس اليوم الثالث" هدية للأب جورج خضر. وإنما فعلتُ ذلك لا بقصد أن يكتب عن المجموعة، لكن تقديراً لثقافته الأصيلة النادرة. ومنذ ذلك الحين توطّدت بيننا صداقة صافية مستمرة. 

قلت إنّ ما قرأته من فكر وأدب عظيمين لرجل دين في اللغة العربية كان من إبداع المطران جورج خضر. معظم كتاباته مقالات على غرار كتّاب كثيرين حول العالم. لكننا أمام كاتب لا يضيره طول كتابة أو قصرها، إذ إن كلاً من مقالاته يرتسم مثل أيقونة تفتح لمن كان له عينان للنظر وأُذنان للسمع أبعاداً لا تنتهي، لا بل تفتح للكثيرين عيوناً وآذاناً. وها هو اليوم على عتبة التسعين يكتب وكأنه في الثلاثين جدّةً واندفاعاً. إنه سيّد المقالة في اللغة العربية. لا يمكن أن تقرأ مقالة واحدة له إلا وقد زدتَ علماً وحكمة وبُعد نظر. ولو قصدتَ أن تقتطع من كل مقالة ما هو بمثابة أقوال مأثورة، لصنّفتَ كتاباً قيّماً من مأثوراته التي يجتمع فيها اللاهوت والأدب والفلسفة والاجتماع والسياسة. المخاطَب عنده لا يقتصر على من انتمى إلى الأُرثوذكسية، ولا إلى المسيحية، ولا إلى الاسلام. المخاطَب عنده هو الانسان في انكساره ومحدوديته، في يأسه ورجائه، في عرائه وهو متروك وحيداً يبحث عن درب خلاص. 

بين مآثر المطران الأديب معلَمٌ فريد هو كتابه "لو حكيت مسرى الطفولة". وقد كانت لي قراءة للكتاب بعيد صدوره عام 1979، نُشرت في مجلة المستقبل في باريس وأنا مقيم هناك. وصارت تلك القراءة نقطة انطلاق لما قيل في هذا الكتاب حتى اليوم. وإذا كان من أبرز الشروط لفهمنا كتاباً معيناً أن نستطيع وضعه في الخانة الملائمة التي ينتمي إليها، فلعل النقطة المحورية في قراءتي المذكورة وضع "تحفة" المطران خضر إلى جانب عدد من السيَر الفكرية أو الروحية أو الثقافية. هكذا صنّفتُه مع كتب عظيمة خلال التاريخ، مثل "تأملات" ماركوس أُوريليوس و"اعترافات" أُوغسطين و"منقذ" الغزالي وما نسبه دوستويفسكي إلى الأب زوسيما. وإذ نسي بعضهم صفة الروحية أو الثقافية، اكتفوا بتسمية الكتاب سيرة ذاتية. وهذا خطأ. إلا أن السيرة على أنواع. والروائي نفسه يستطيع أن يضع على لسان عدد من أبطاله جوانب من سيرته الفكرية. وما تزال سيرة المطران جورج الشخصية في حاجة إلى من يكتبها. 

وبما أنني معنيٌّ مباشرة بهذا السجال الذي انطلق من قراءتي للكتاب، ظل موضوع السيرة التأملية يلاحقني حتى التمع في ذهني قبل أسابيع قليلة حدس يعزز موقفي، انطلاقاً من الاسم الذي أطلقه المطران على بطله: "صاحبي". وهذا الحدس نورٌ قذفه اللّه في الصدر من قوله تعالى: "ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إنْ هو إلا وحي يوحى" (سورة النجم، 53: 4-2). لم أُفاتح صديقي الكبير بهذه الفكرة. لكنّ شعوري أنه استعار اسم "صاحبي" من تلك الآيات البيّنات. 

الذين تحلقوا حول الأب جورج خضر الشاب أوكلوا إليه مهمة نبوية لما توسموا فيه من مواهب. وهو ارتضى تلك المهمة الشاقة وتعهد هذه المواهب الالهية خير تعهد. وإذ وقف ينتقد كل ما رآه قتلاً للروح في الكنيسة التي تحولت إلى مؤسسة على أيدي أُناس مسخوا جسد المسيح إلى جسد من سياسة، انقسم الناس في شأنه فئةً للمؤسسة وفئة للمسيح. هكذا يبدو – والكتاب يدور على هذا النضال – أنّ اسم "صاحبي" لم يأتِ مصادفة، بل هو تأكيد لدور المؤلف الاصلاحي النبوي. ولقد كانت حياته ورسالته وكتاباته كلها جهاداً لاستعادة المسيح، وكأنه يقول مع بولس الرسول: "بل إني أحسب كل شيء خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرتُ كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (فيلبي 3: 9). من هنا أقول إن أعمال جورج خضر الكاملة، لا هذا الكتاب فقط، يمكن تصنيفها تحت السيرة التأملية. هذا رجل كلمتُه وحياته واحد. 

فيا صاحبي، 

كم كان حظ الكثيرين عظيماً أنهم عاصروا فيك واحداً من الذين "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (سورة يونس، 10: 62). وكم سيكون حظ أجيال كثيرة عظيماً لأنك مهدتَ لها طريقاً آمناً. كبيرٌ أنتَ في جماعة صنعت للعرب نهضتيهم: النهضة الأُولى في العصر العباسي والنهضة الثانية في الأزمنة الحديثة. صوتاً نبوياً كنت لا في جماعتك المحدودة فقط، بل في الجماعة العربية وفي الجماعة الانسانية ككل. كنت أباً من آباء الكنيسة المعاصرين، بل الأب الكبير الأول للكنيسة في اللسان العربي. ليس متوقَّعاً من رجل دين ما كنتَه، ولا من أديب ما كنتَه. إلا أنك صاحب كرامات. أينما حللتَ كسرتَ المألوف، فكنتَ – بيد سيّدكَ رب العالمين – صانع عجائب. أوليست المعجزات هي الأعظم بين خوارق العادات؟

 

د. أديب صعب

* Stories are edited and translated by Info3 *
Non info3 articles reflect solely the opinion of the author or original source and do not necessarily reflect the views of Info3